لقد اختار الكاتب لفظ "تحديث" في عنوان هذا الكتاب وليس "تجديد" لتوضيح أن المسألة ليست في الدعوة إلى التجديد، فكم من قديم تحدّى الزمن، وكم من جديد معاصر لا فائدة فيه؛ فهو يوضّح أن القضية هي مدى استجابة الفكر الإسلامي لمعطيات الحداثة المادية والمعنوية. فالناظر إلى البلاد الإسلامية يجد أن قوانينها قوانين وضعية، فيما عدا مجال الأحوال الشخصية ومجال العلاقات الأسرية، فهما عادةً ما يكونا آخر مجالين تنتصر فيهما العلمنة بعد صراع طويل. والدين دائمًا هو مصدر مشروعية الحكَّام لأنه يبرز حكمهم على أنه متعالٍ لا مجال لمعارضته.
إن ميدان الفكر الإسلامي متشعب وواسع، يفترض من كل المتحدثين والمستمعين لقضاياه أن يتكلموا لغة واحدة، لغة مشتركة غائبة –على الأقل حتى الآن -بين صنفين من الدارسين: صنف يعرف هذه العلوم معرفة جيدة، لكنه يتّسم بالحفظ والتلقين والاجترار ويفتقر النقد، وهو ما يوجد في المعاهد الإسلامية التقليدية، وصنف آخر موجود في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وهو مغيَّب تمامًا ويسود الجهل معظم خريجينه. وحين نبدأ النظر في الفكر الإسلامي، سنجد أن عامة الذين يكتبون في هذه الشؤون يعتبرون الإسلام شيئًا جاهزًا؛ لذلك يجب أن نوضح بعض الملاحظات المبدئية المتعلقة بهذه القضية.
لا بد من تمييز صارم بين الفكر الإسلامي والإسلام، أو بمعنى آخر التدين والدين. فالدين لا يمكن أن نغيّره أو نطوره على عكس الفكر الإسلامي المتمثل في (التفسير، والحديث، وعلم الكلام، والفقه، والأصول، والتصوّف والأخلاق وما إلى ذلك)، على عكس وجهة نظر العلماء التقليديين الذين يقدمون ما يقولونه عن الإسلام باعتباره هو والدين واحد، وما نقوله عن الفكر الإسلامي يمكن إسقاطه على أي فكر ديني، وخاصةً الفكر المسيحي واليهودي، نظرًا للعلاقات التاريخية الموجودة بين الديانات التوحيدية الثلاثة. فالفكر الديني يخضع لقوانين عامة، فإذا أخذنا مثلا ظاهرة الطقوس، سنجدها مشتركة بين جميع الديانات مع اختلاف أشكالها فقط.
وإذا ما اتفقنا على هذه المقدمات فإننا يجب أن نقف عند أمرين في الخطاب الإسلامي التقليدي: النص، والإجماع. بالنسبة إلى النص، فهو مفهوم واسع وفضفاض، ويمكن توظيفه توظيفات مختلفة، واستعماله في توجهات مختلفة وأحيانًا متناقضة؛ لذلك فإن الاحتجاج بالنص ليس احتجاجًا بريئًا، ونذكر هنا قول علي بن أبي طالب: (هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفّين لا ينطق، إنما ينطق به الرجال)، ولهذا فإن القرآن يمكن تحميله أكثر من وجه.
على سبيل المثال الآيات، المتعلقة بالعنف ورد العدوان والقصاص وكل الآيات التي تنص على مشروعية استخدام العنف يتجاهل الفقهاء أواخرها التي تحث على العفو والسماح، ذلك أن الفقهاء كانوا يسعون إلى سن قوانين تنظم الحياة الاجتماعية لا يمكن للعفو أن يخضع لها. وعادة ما تكون هذه الآيات مقتطعة من سياقها التاريخي والنصّي، وهذا الفصل عن السياق التاريخي قد جعل الفقهاء يأخذون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بغض النظر عن إمكانية استجابة النص لوضع معين وظرف محدد زمنيًا دون غيره. فنأخذ مثلًا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، و(هُمُ الظَّالِمُونَ )، و(هُمُ الْفَاسِقُونَ). هذه الآيات تتعلق ببني إسرائيل، فإذا فُصلت عن سياقها، فإن النتائج ستكون مختلفة تمامًا وتبيح عقوبات باسم الإسلام وفي الحقيقة هي لا تنتمي له.
نلاحظ أن التفاسير القرآنية قد شكلت عبر التاريخ نصوصًا ثواني، أي لا يمكن فهم النصوص إلا من خلال تلك التفسيرات. ونلاحظ أيضًا أن القواعد الأصولية قد اعتُمِدت كمصادر التأويل الوحيدة، رغم أنها متأخرة عن فترة الوحي، ورغم أنها من وضع بشر يصيبون ويخطئون، ويتأثرون بزادهم المعرفي والثقافي ومتطلبات عصرهم ونزعاتهم الذاتية، ومع ذلك فقد رسموا سياجًا لا يجوز الاختلاف إلا في نطاقه، فهم من حددوا المسائل التي يمكن فيها الاختلاف وحدود ذلك الاختلاف، فيما عدا تلك المسائل لا يمكن الاجتهاد أو الاختلاف، وقد تم ذلك التسييج بحكم اجتهاداتهم، وليس بحكم النص
وص.
إن النص عند الفقهاء لا يتضمن القرآن فقط، وإنما يشمل الحديث، وقد أوكلت إليه مهمتان: (بيان المجمل في القرآن، وبيان آخر وهو زيادة على حكم الكتاب)، ولا نظن أن هذا الموقف من الحديث قد اتُّخِذ في حياة الرسول، وهذا الاعتراض ليس بالأمر الجديد، بل هو موقف قديم، فمثلًا في عصر الإمام الشافعي كان هناك من "لا يقبل خبرًا وفي كتاب الله البيان" ومن كان يقول "ما لم يكن فيه كتاب الله؛ فليس على أحد فيه فرض" حسب رواية الشافعي في كتابه الأم، ولكنه يرد عليه بأن المنظومة الفقهية لا يمكن لها أن تستقيم بدون المهمة التي أوكلت إلى الحديث، ولكن الأمر لم يكن كذلك في عصر الرسول (ص). وقد كتب فخر الدين الرازي أن الصحابة لم يكونوا يكتبون كلام الرسول (ص) من أوله إلى آخره لفظًا، فمن الطبيعي أنهم حين يسمعونه ثم يخرجون لكتابته أو يكررونه بعد فترة قد تتجاوز الثلاثين سنة فإنهم سيعجزون عن تذكره بالنص، فإن الإنسان طبعه النسيان، بل إنهم لا يعيدون إلا بعضه، والدليل على ذلك اختلاف الروايات في الحديث الواحد، وكل ذلك يوجب الشك في هذه الأخبار.
وقد نلاحظ أن كثير من رواة الحديث لا يتوفر فيهم مفهوم "الصحبة" ولم يكونوا ممن عاشروا الرسول وعاشوا معه، ومن أشهرهم أبو هريرة الذي نُقل عنه أكثر من 4000 حديث في صحيح البخاري، وأبو هريرة كنية لأن لا أحد يعرف اسمه، وهو في أحسن الأحوال قضي مع النبي في المدينة تسعة أشهر أو سنة، ومنهم من كان في سن لا يسمح له بالتمييز، مثل عبدالله بن عباس، الذي لم يكن تجاوز الثانية عشرة عند وفاة الرسول (ص).
وننتقل إلى حجة الإجماع، وقد استعمل في الغالب لإقصاء المخالفين أكثر من إيجاد ملاءمة بين الدين والحياة، وقد اعتمد على حديث (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، والجدير بالذكر أن الشافعي لم يذكر ذلك الحديث، ومن الغريب أن يكون الشافعي عرف هذا الحديث ولم يذكره، وإنما اكتسب حجته في كتب الأصول المتأخرة عن زمن الشافعي. وقد أزاحت تلك الحجة كل من اعتُبِروا أهل بدعة. إذ وضع الفقهاء المسلمين أمام خيارين، إما التقيّد بالنص والإجماع، أو الخروج عن الجماعة بما يترتب على ذلك من نتائج قد تصل إلى التكفير وإهدار الدم.
ونحن هنا لا نرى حقيقة الفهم الإسلامي في فترة النبوّة، وإنما حقيقة الفهم الإسلامي في فترة التدوين، أي منتصف القرن الثاني الهجري، وبما أن هذه المنظومة المنغلقة المكبلة منظومة تاريخية بشرية؛ فإننا يمكننا إذًا كسر الحاجز النفسي تجاه هذا الموروث وإعادة النظر فيه.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان